فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويونس عن أبي عمرو، وزيد بن على رضي الله تعالى عنهما بإفراد {العظام} في الموضعين اكتفاء باسم الجنس الصادق على القليل والكثير مع عدم اللبس كما في قوله:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا

واختصاص مثل ذلك بالضرورة على ما نقل عن سيبويه لا يخلو عن نظر، وفي الإفراد هنا مشاكلة لما ذكر قبل في الأطوار كما ذكره ابن جني.
وقرأ السلمي، وقتادة أيضًا، والأعرج، والأعمش، ومجاهد، وابن محيصن بإفراد الأول وجمع الثاني.
وقرأ أبو رجاء، وإبراهيم بن أبي بكر، ومجاهد أيضًا بجمع الأول وإفراد الثاني {ثُمَّ أنشأناه خَلْقًا ءاخَرَ} مباينًا للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعل حيوانًا ناطقًا سميعًا بصيرًا وأودع كل عضو منه وكل جزء عجائب وغرائب لا تدرك بوصف ولا تبلغ بشرح، ومن هنا قيل:
وتزعم أنك جرم صغير ** وفيك انطوى العالم الأكبر

وقيل الخلق الآخر الروح والمراد بها النفس الناطقة.
والمعنى أنشأنا له أو فيه خلقًا آخر، والمتبادر من إنشاء الروح خلقها وظاهر العطف بثم يقتضي حدوثها بعد حدوث البدن وهو قول أكثر الإسلاميين وإليه ذهب أرسطو، وقيل إنشاؤها نفخها في البدن وهو عند بعض عبارة عن جعلها متعلقة به، وعند أكثر المسلمين جعلها سارية فيه، وإذا أريد بالروح الروح الحيوانية فلا كلام في حدوثها بعد البدن وسريانها فيه، وقيل: الخلق الآخر القوي الحساسة، وقال الضحاك ويكاد يضحك منه فيما أخرجه عنه عبد بن حميد: الخلق الآخر الأسنان والشعر فقيل له: أليس يولد وعلى رأسه الشعر؟ فقال: فأين العانة والإبط، وما أشرنا إليه من كون {ثُمَّ} للترتيب الزماني هو ما يقتضيه أكثر استعمالاتها، ويجوز أن تكون للترتيب الرتبي فإن الخلق الثاني أعظم من الأول ورتبته أعلى.
وجاءت المعطوفات الأول بعضها بثم وبضعها بالفاء ولم يجيء جميعها بثم أو بالفاء مع صحة ذلك في مثلها للإشارة إلى تفاوت الاستحالات فالمعطوف بثم مستبعد حصوله مما قبله فجعل الاستبعاد عقلًا رتبة بمنزلة التراخي والبعد الحسي لأن حصول النطفة من أجزاء ترابية غريب جدًا وكذا جعل النطفة البيضاء السيالة دمًا أحمر جامدًا بخلاف جعل الدم لحمًا مشابهًا له في اللون والصورة وكذا تصليب المضغة حتى تصير عظمًا وكذا مد لحمها عليه ليستره كذا قيل ولا يخلو عن قيل وقال.
واستدل الإمام أبو حنيفة بقوله تعالى: {ثُمَّ أنشأناه} إلخ على أن من غصب بيضة فأفرخت عنده لزمه ضمان البيضة لا الفرخ لأنه خلق آخر، قال في الكشف: وفي هذا الاستدلال نظر على أصل مخالفيه لأن مباينته للأول لا تخرجه عن ملكه عندهم، وقال صاحب التقريب: إن تضمينه للفرخ لكونه جزاءًا من المغصوب لا لكونه عينه أو مسمى باسمه، وفي هذا بحث وفي المسألة خلاف كثير وكلام طويل يطلب من كتب الفروع المبسوطة.
وقال الإمام: قالوا في الآية دلالة على بطلان قول النظام: إن الإنسان هو الروح لا البدن فإنه تعالى بين فيها أن الإنسان مركب من هذه الأشياء، وعلى بطلان قول الفلاسفة: إن الإنسان لا ينقسم وإنه ليس بجسم وكأنهم أرادوا أن الإنسان هو النفس الناطقة والروح الأمرية المجردة فإنها التي ليست بجسم عندهم ولا تقبل الانقسام بوجه وليست داخل البدن ولاخارجة {فَتَبَارَكَ الله} فتعالى وتقدس شأنه سبحانه في علمه الشامل وقدرته الباهرة، و{تبارك} فعل ماض لا يتصرف والأكثر إسناده إلى غير مؤنث، والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة والاشعار بأن ما ذكر من الأفاعيل العجيبة من أحكام الألوهية وللإيذان بأن حق كل من سمع ما فصل من أرثار قدرته عز وجل أو لاحظه أن يسارع إلى التكلم به إجلالًا وإعظامًا لشؤونه جل وعلا {أَحْسَنُ الخالقين} نعت للاسم الجليل، وإضافة أفعل التفضيل محضة فتفيده تعريفًا إذا أضيف إلى معرفة على الأصح.
وقال أبو البقاء: لا يجوز أن يكون نعتًا لأنه نكرة وإن أضيف لأن المضاف إليه عوض عن من وهكذا جميع باب أفعل منك وجعله بدلًا وهو يقل في المشتقات أو خبر مبتدأ مقدر أي هو أحسن الخالقين والأصل عدم التقدير، وتميز أفعل محذوف لدلالة الخالقين عليه أي أحسن الخالقين خلقًا فالحسن للخلق قيل: نظيره قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى جميل يحب الجمال» أي جميل فعله فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعًا فاستتر، والخلق بمعنى التقدير وهو وصف يطلق على غيره تعالى كما في قوله تعالى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير} [المائدة: 110] وقول زهير:
ولأنت تفري ما خلقت ** وبعض القوم يخلق ثم لا يفري

وفي معنى ذلك تفسيره بالصنع كما فعل ابن عطية، ولا يصح تفيره بالإيجاد عندنا إذ لا خالق بذلك المعنى غيره تعالى إلا أن يكون على الفرض والتقدير.
والمعتزلة يفسرونه بذلك لقولهم بأن العبد خالق لأفعاله وموجود لها استقلالًا فالخالق الموجد متعدد عندهم، وقد تكفلت الكتب الكلامية بردهم.
ومن حسن خلقه تعالى اتقانه وأحكامه، ويجوز أن يراد بالحسن مقابل القبح وكل شيء منه عز شأنه حسن لا يتصف بالقبح أصلًا من حيث أنه منه فلا دليل فيه للمعتزلة بأنه تعالى لا يخلق الكفر والمعاصي كما لا يخفى.
روى أن عبد الله بن سعيد بن أبي سرح كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأملى عليه صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} [المؤمنون: 12] حتى إذا بلغ عليه الصلاة والسلام {ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً} نطق عبد الله بقوله تعالى: {فَتَبَارَكَ الله} إلخ قبل إملائه فقال له عليه الصلاة والسلام: «هكذا نزلت» فقال عبد الله: إن كان محمد نبيًا يوحى إليه فأنا نبي يوحى إلى فارتد ولحق بمكة كافرًا ثم أسلم قبل وفاته عليه الصلاة والسلام وحسن إسلامه، وقيل: مات كافرًا.
وطعن بعضهم في صحة هذه الرواية بأن السورة مكية وارتداده بالمدينة كما تقتضيه الرواية.
وأجيب بأنه يمكن الجمع بأن تكون الآية نازلة بمكة واستكتبها صلى الله عليه وسلم إياه بالمدينة فكان ما كان أو يلتزم كون الآية مدنية لهذا الخبر، وقوله: إن السورة مكية باعتبار الأكثر وعلى هذا يكون اقتصار الجلال السيوطي على استثناء قوله تعالى: {حتى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ} إلى قوله سبحانه: {مُّبْلِسُونَ} [المؤمنون: 64- 77] قصورًا فتذكر.
وتروى هذه الموافقة عن معاذ بن جبل: أخرج ابن راهويه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال: «أملى على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] إلى قوله تعالى: {خَلْقًا ءاخَرَ} فقال معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له معاذ: مم ضحكت يا رسول الله؟ قال: بها ختمت» ورويت أيضًا عن عمر رضي الله تعالى عنه، أخرج الطبراني وأبو نعيم في فضائل الصحابة وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما نزلت {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ} إلى آخر الآية قال عمر رضي الله تعالى عنه: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} فنزلت كما قال.
وأخرج ابن عساكر وجماعة عن أنس أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يفتخر بذلك ويذكر أنها إحدى موافقاته الأربع لربه عز وجل، ثم إن ذلك من حسن نظم القرآن الكريم حيث تدل صدور كثير من آياته على إعجازها، وقد مدحت بعض الأشعار بذلك فقيل:
قصائد إن تكن تتلى على ملاء ** صدورها علمت منها قوافيها

لا يقال: فقد تكلم البشر ابتداء بمثل نظم القرآن الكريم وذلك قادح في إعجازه لما أن الخارج عن قدرة البشر على الصحيح ما كان مقدار أقصر سورة منه على أن إعجاز هذه الآية الكريمة منوط بما قبلها كما تعرب عنه الفاء فإنها اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله.
{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك} أي بعد ما ذكر من الأمور العجيبة حسبما ينبىء عنه ما في اسم الإشارة من معنى البعد المشعر بعلو رتبة المشار إليه وبعد منزلته في الفضل والكمال وكونه بذلك ممتازًا منزلًا منزلة الأمور الحسية {لَمَيّتُونَ} أي لصائرون إلى الموت لا محالة كما يؤذن به اسمية الجملة وإن واللام وصيغة النعت الذي هو للثبوت، وقرأ زيد بن على رضي الله تعالى عنهما وابن أبي عبلة وابن محيصن {لمايتون} وهو اسم فاعل يراد به الحدوث، قال الفراء وابن مالك: إنما يقال مايت في الاستقبال فقط.
{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة} عند النفخة الثانية {تُبْعَثُونَ} من قبوركم للحساب والمجازاة بالثواب والعقاب، ولم يؤكد سبحانه أمر البعث تأكيده لأمر الموت مع كثرة المترددين فيه والمنكرين له اكتفاء بتقديم ما يغني عن كثرة التأكيد ويشيد أركان الدعوى أتم تشييد من خلقه تعالى الإنسان من سلالة من طين ثم نقله من طور إلى طور حتى أنشأ خلقًا آخر يستغرق العجائب ويستجمع الغرائب فإن في ذلك أدل دليل على حكمته وعظيم قدرته عز وجل على بعثه وإعادته وأنه جل وعلا لا يهمل أمره ويتركه بعد موته نسيًا منسيًا مسقرًا في رحم العدم كأن لم يكن شيئًا، ولما تضمنت الجملة السابقة المبالغة في أنه تعالى شأنه أحكم خلق الإنسان وأنقنه بالغ سبحانه عز وجل في تأكيد الجملة الدالة على موته مع أنه غير منكر لما أن ذلك سبب لاستبعاد العقل إياه أشد استبعاد حتى يوشك أن ينكر وقوعه من لم يشاهده وسمع أن الله جل جلاله أحكم خلق الإنسان وأتقنه غاية الاتقان، وهذا وجه دقيق لزيادة التأكيد في جملة الدالة على الموت وعدم زيادته في الجملة الدالة على البعث لم أر أني سبقت إليه، وقيل في ذلك: إنه تعالى شأنه لما ذكر في الآيات السابقة من التكليفات ما ذكر نبه على أنه سبحانه أبدع خلق الإنسان وقلبه في الأطوار حتى أوصله إلى طور هو غاية كماله وبه يصح تكليفه بنحو تلك التكليفات وهو كونه حيًا عاقلًا سميعًا بصيرًا وكان ذلك مستدعيًا لذكر طور يقه فيه الجزاء على ما كلفه تعالى به وهو أن يبعث يوم القيامة فنبه سبحانه عليه بقوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ} فالمقصود الأهم بعد بيان خلقه وتأهله للتكليف بيان بعثه لكن وسط حديث الموت لأنه برزخ بين طوره الذي تأهل به للأعمال التي تستدعي الجزاء وبين بعثه فلابد من قطعه للوصول إلى ذلك فكأنه قيل: أيها المخلوق العجيب الشأن إن ماهيتك وحقيقتك تفنى وتعدم ثم إنها بعينها من الأجزاء المتفرقة والعظام البالية والجلود المتمزقة المتلاشية في أقطار الشروق والغرب تبعث وتنشر ليوم الجزاء لاثابة من أحسن فيما كلفناه به وعقاب من أساء فيه، فالقرينة الثانية وهي الجملة الدالة على البعث لم تفتقر إلى التوكيد افتقار الأولى وهي الجملة الدالة على الموت لأنها كالمقدمة لها وتوكيدها راجع إليها، ومنه يعلم سر نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب انتهى، وفيه من البعد ما فيه.
وقيل: إنما بولغ في القرينة الأولى التمادي المخاطبين في الغفلة فكأنهم نزلوا منزلة المنكرين لذلك وأخليت الثانية لوضوح أدلتها وسطوع براهينها، قال الطيبي: هذا كلام حسن لو ساعد عليه النظم الفائق، وربما يقال: إن شدة كراهة الموت طبعًا التي لا يكاد يسلم منها أحد نزلت منزلة شدة الإنكار فبولغ في تأكيد الجملة الدالة عليه، وأما البعث فمن حيث أنه حياة بعد الموت لا تكرهه النفوس ومن حيث أنه مظنة للشدائد تكرهه فلما لم يكن حاله كحال الموت ولا كحال الحياة بل بين بين أكدت الجملة الدالة عليه تأكيدًا واحدًا.
وهذا وجه للتأكيد لم يذكره أحد من علماء المعاني ولا يضر فيه ذلك إذا كان وجيهًا في نفسه، وتكرير حرف التراخي للإيذان بتفاوت المراتب، وقد تضمنت الآية ذكر تسعة أطوار ووقع الموت فيها الطور الثامن ووافق ذلك أن من يولد لثمانية أشهر من حمله قلما يعيش، ولم يذكر سبحانه طور الحياة في القبر لأنه من جنس الإعادة. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ} أي: ابتدأنا خلقه: {مِنْ سُلالَةٍ} أي: خلاصة: {مِنْ طِينٍ} أي: تراب خلط بماء فصار نباتًا فأكله إنسان فصار دمًا {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} أي: بأن خلقناه منها، أو ثم جعلنا السلالة نطفة بالتصفية: {فِي قَرَارٍ} أي: مستقر، وهو رحم المرأة الذي نقل إليه: {مَكِينٍ} أي: متمكن لا يمجّ ما فيه.
{ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} أي: بالاستحالة من بياض إلى حمرة كالدم الجامد: {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} أي: قطعة لحم بقدر ما يمضغ: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} أي: بأن صلبناها وجعلناها عمودًا للبدن، على هيئات وأوضاع مخصوصة، تقتضيها الحكمة: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} أي: جعلناه محيطًا بها ساترًا لها كاللباس: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} أي: بتمييز أعضائه وتصويره، وجعله في أحسن تقويم: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ} أي: تعاظم قدرة وحكمة وتصرفًا: {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} أي: المقدرّين. فالخلق بمعنى التقدير كقوله:
وَلأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلقتَ وَبَعْ ** ضُ القوم يَخْلُقُ ثم لا يَفْرِي

لا بمعنى الإيجاد. إذ لا خالق غيره، إلا أن يكون على الفرض.
{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ} أي: بعد ما ذكر من الأمور العجيبة وتحصيل هذه الكمالات: {لَمَيِّتُونَ} أي: لصائرون إلى الموت.
قال المهايميّ: والحكيم لا يتلف ما استكمله بأنواع التكميل، ولذلك سيبعثه كما قال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} أي: من قبوركم للحساب والمجازاة. اهـ.